كان يوم استثنائي من أهم احداثه اختبار آخر مادة و أتخرج بعدها من كلية الهندسة وخلال الاختبار وقف بجانبي أستاذ المادة ذلك الرجل الفاضل المهذب وسألني متى تتخرج فكانت اجابتي له ممزوجة بمشاعر استحضرها إلى الآن حيث قلت دكتور الحمد لله هذا آخر اختبار لي بالكلية؛ تبسم وطلب مني أن أزوره بمكتبه بعد الاختبار مباشرة وكانت نتيجة تلك الزيارة أن حصلت على أول وظيفية لي وكانت عمل صيفي بأحد المشاريع التي يديرها ذلك الدكتور النبيل. خلال تلك التجربة كُنت شديد الملاحظة لسلوكه وسلوك زملائه والجو العام لتلك الوظيفة التي كانت تتطلب التواصل بشكل فعّال مع عدد من الطلبة الموهوبين والشرح لهم عن بعض اساسيات الالكترونيات والبرمجة حتى يتمكنوا من إنجاز مشاريعهم. كان الجو العام يسوده روح الفريق والعمل الإبداعي مع وضوح قوة التأثير والتحكم لقادة كل فريق وذلك ضمن منافسة رائعة بين تلك الفرق. بينما كان الجميع مستمتع بالمحتوى العلمي كان تركيزي منصب على ملاحظة كيفية إدارة العمل وضمان استمراره وتحقيق أهدافه بغض النظر عن أي تحدي علمي او لوجيستي أو غيرها. هذه التجربة – مع قصر مدتها وانتقالي مباشرة لعمل آخر مع نهاية ذلك البرنامج الرائع- قدمت لي الكثير وأثرها مستمر معي حتى اليوم.
من أهم الملاحظات التي لاحظتها في فريق العمل المكون من خبرات متعددة (دكاترة ومهندسين وفنيين واداريين) التالي:
- الشغف تجاه العمل يؤدي إلى الابداع
- استشعار أهمية العمل يؤدي إلى التحكم
- فهم نتائج ونوعية العمل يؤدي إلى التأثير
لاحظت مستويات مختلفة لهذه السلوكيات بين اعضاء فريق العمل، ولكن أهم ملاحظة وجدتها لدى قائد ذلك الفريق حيث يتضح جلياً أن لديه الإحساس بالمسؤولية تجاه العمل الذي يقوم به. أدى ذلك إلى الاهتمام بكل التفاصيل وتحفيز الجميع وتذليل الصعاب لضمان نجاح ذلك البرنامج. كان مندمجاً مع الجميع مرة محفزاً وتارة أخرى موجهاً. أول الحضور وآخر المغادرين يتنبأ بكل خطوة ويبادر بأي فكره لا يعطي اوامر، بل يقدم اقتراح ويبرر له ويتسع صدره لأي نقد. حازم ويهتم بضبط وتيرة العمل.
هذه الذكريات عادت لي هذا الأسبوع وانا اراجع محتوى أحد برامج القيادة التي انضممت لها مؤخراً وبعد التأمل والربط وجدت إجابة لتساؤل طالما بحثت عن آلية منطقية وعملية للإجابة عليه. هذا السؤال يأتي في عدة صياغات وسياقات مثل:
- هل حان الوقت للبحث عن وظيفة أخرى؟
- هل اقبل بهذا العرض الوظيفي أم لا؟
- ايهما أفضل وظيفتي الحالية أم العرض المقدم لي أم عملي الخاص؟
هذا التساؤل خاص بذوي الخبرة فقط وليس حديثي التخرج. وللإجابة على هذا النوع التساؤلات المصيرية هناك عدة أدوات يمكن أن يستأنس بها مثل وضع ميزان للميزات والتحديات في كل الخيارات وتقيمها كما أن بعض الأساليب المشهورة في اتخاذ القرار قد تساعد في هذه المرحلة. والمهم أن الإجابة تكون بصدق ووضوح من متخذ القرار وبعيداً عن العاطفة. ما سوف اعرضه هنا وباختصار هو نتيجة لتأمل لخبراتي السابقة واطلاعي على عدة مصادر ومعرفتي بعدة تجارب ويمكن أن يدمج مع منهجيات اتخاذ القرار وليس بالضرورة أن يكون صحيحاً وشاملاً.
بداية صاحب الخبرة الأصل أن لديه معرفة قوية وعميقة واصيلة بالتخصص الذي اختاره كونه على مدى تلك السنين بنى له مسار وظيفي كما أن سنوات الخبرة في ذلك المسار اكسبته مهارات متنوعه أهمها معرفته بميوله وشغفه وميزاته التنافسية.
عند دراسة أي عرض وظيفي او حتى المشاركة في مشروع اعرض العمل الحالي والعرض الجديد على هذا الميزان ولنأخذ مثال بسيط على شخصية وهمية اسمها “حاتم” وذلك بهدف توضيح كيفية استخدام هذا الميزان كأول خطوة لدراسة أي عرض وظيفي.
حاتم مهندس ومبرمج متمكن على عدة لغات ويحمل خبرة تزيد عن ٢١ سنه اكتسب خلالها عدة مهارات مثل تحليل الاعمال وقيادة فرق العمل باستخدام منهجيات الاجايل. يتمتع حاتم بشخصية مرنه وذات كاريزما متميزة كونه مستوعب لنقاط القوة لديه ويعمل بشغف في أي مشروع يديره. ذات يوم قدم عرضاً لأحد العملاء عن أحد منتجات الشركة ولاقى ذلك العرض استحسان الجميع وبعدها بفترة تلقى عرض عمل من أكثر من شركة كونه نشطاً في مواقع التواصل الاجتماعي ويعرض بعض المحتوى النوعي.
العروض كانت متفاوتة إلا عرض واحد لم يستطع أن يتجاهله مطلقاً ووقع في حيرة بين قبول العرض وانتهاز الفرصة أو رفضها. للخروج من هذه الدوامة استخدم حاتم عدة طرق للمقارنة بين عمله الحالي والعرض الجديد أحد هذه الطرق هو تقييم مستوى الابداع والتحكم والتأثير. هذه الطريقة استخدمها حاتم كونه يملك خبرة وشخصية دائماً تتطلع للأفضل على المستوى الشخصي والعملي أيضاً. هو يؤمن بأن لا خير في عمل لا يوجد به مجال للإبداع ولا يمكن من خلاله صنع أثر يدوم مع ضرورة امتلاك مقومات التحكم التي هي أساس لا غنى عنه لمن يهدف أن يكون إضافة للمكان الذي يعمل به. هذا الميزان استخدمه حاتم وجمع كل الإجابات اللازمة لتقييم كل ركن من هذه الأركان الثلاثة كونه مهندس يستشعر المسؤولية ولا يمكن أن يكون تكملة عدد، بل يقبل براتب معقول مقابل إنجاز عمل بإبداع وامتلاك تحكم يصنع من خلاله تأثير إيجابي على المنظمة التي يعمل بها.
الخلاصة
مساحة الإبداع ومستوى التأثير وامتلاك التحكم جميعها ممكّنات أساسية يتطلع لها أصحاب الخبرة عند اتخاذ القرار للانضمام لعمل أو مشروع كونهم مستوعبين بعمق لنقاط قوتهم ولديهم إحساس بالمسؤولية.
اسعد بمشاركة رأيك حول هذا الميزان وعن تجاربك في اتخاذ قرار الالتحاق بعمل أو مشروع في مجال عملك.